جمال عبد الناصر.. من هو ذلك الرجل؟ يراه مُحبوه ومؤيدوه «ملاكًا رحيمًا» ويراه كارهوه ومُعارضوه «شيطانًا رجيمًا»، يراه مُحبوه ومؤيدوه «زعيم...
جمال عبد الناصر.. من هو ذلك الرجل؟
يراه مُحبوه ومؤيدوه «ملاكًا رحيمًا» ويراه كارهوه ومُعارضوه «شيطانًا رجيمًا»، يراه مُحبوه ومؤيدوه «زعيمًا عظيمًا» ويراه كارهوه ومُعارضوه «طاغيةً جبارًا». وهو عند مُحبيه ومؤيديه (الريس) وعند كارهيه ومُعارضيه (الديكتاتور). يقول مُحبوه ومؤيدوه: أنهم عاشوا معهُ حلمًا جميلًا عظيمًا، ويرد عليهم كارهوه ومُعارضوه بل كان كابوسًا مُفزعًا مُخيفًا.
ولا يزال السؤال مطروحًا بعد غيابه بثمانية وأربعين عامًا: من هو جمال عبد الناصر؟ هل هو ساحر استطاع بسحره أن يملك ويأسر قلوب الجماهير قبل عقولها؟ أم هو إنسان أخلص للجماهير العريضة من المحيط للخليج، فأخلصت له تلك الجماهير ووضعته في قلوبها وأغلقت عليه صدورها؟
ولعلني عزيزي القارئ أعترف مُنذ البداية أني من مُحبي ومؤيدي الرجل (على المستوى الإنساني والسياسي)، ولكنه الحُب الواعي والمُدرك بأن الرجل على المستوى الشخصي «إنسان» لهُ ما لُه وعليه ما عليه. وعلى المستوى السياسي فهو «تجربة» إنسانية زاخرة حافلة بالأحداث، تجربة أعطت وأخذت، أصابت وأخطأت، اجتهدت قدر طاقتها وقدرتها ونجحت في أمور وفشلت في أمور أخرى.
تتبقى ملاحظتان
الأولى: وهي أن هذا المقال كنت أعددته للنشر في عيد ثورة (23 يوليو) القادم، ولكني رأيت أن هذا المقال قد يكون ردًا مُناسبًا على نظام كامب ديفيد الذي أطلق كلابه المسعورة هذه الأيام لتنهش في جمال عبد الناصر الإنسان والتجربة.
الثانية: إن مقالي هذا ليس مثل مقالين سابقين لي، الأول: معنون بـ عن عبد الناصر ودور الفرد في التاريخ، يبحث أثر الفرد في تاريخ أمتهُ ووضعت عبد الناصر مثالًا على ذلك، والثاني: كان دفاعًا مباشرًا عن عبد الناصر والتجربة الناصرية ضد كل الثيران الهائجة الذي أصبح اسم جمال عبد الناصر هو بمثابة الوشاح الأحمر، الذي ما إن تراه أو تسمعه تلك الثيران حتى تنطلق لتنهش وتقتل وتشوه الرجل وكان المقال بعنوان: هل الناصرية سبب كل المصائب المصرية والعربية؟
ولكن هذا المقال هو مجموعة مواقف لجمال عبد الناصر وأحاديث عنه، وربما بعد أن ينتهي القارئ الكريم من قراءتها يمكن أن تُعطيه صورة ولو تقريبية لجمال عبد الناصر الإنسان والتجربة، ولعلها يمكن أن تُقربهُ من الإجابة عن السؤال الأهم: من هو جمال عبد الناصر؟
وأخيرًا: فإن مراجع المقال سترد في نهايته.
(1) بروتوكول الصعيد يتفوق على بروتوكول أوروبا في القصر الملكي اليوناني!
في زيارة رسمية لليونان التقى «جمال عبد الناصر» مع ملك اليونان «بول»، وكانت السيدة قرينة الرئيس عبد الناصر (تحية) تصحبه في هذه الزيارة، وكانت معها الملكة (فردريكا) قرينة الملك بول. وكان الأربعة يستعدون لدخول قاعة العشاء الكُبرى التي امتلأت بالمدعوين يومها ينتظرون دخول الرئيس المصري وقرينته وملك اليونانيين وملكتهم. وتولت الملكة فردريكا تنظيم خُطا الدخول إلى القاعة.
وقالت الملكة اليونانية للزعيم المصري جمال عبد الناصر: «إنني سوف أضع يدي على ذراعك وندخل معًا، ثم تضع قرينتك يدها على ذراع الملك ويدخلان معًا».
وسألها جمال عبد الناصر ببساطة: «لماذا ذلك يا سيدتي»؟
وقالت الملكة فردريكا مبتسمة: «لأن هذا هو البرتوكول يا سيدي الرئيس»
وضحك جمال عبد الناصر وقال لها:
«من سوء الحظ أني لا أعرف إلا البرتوكول الصعيدي في مصر، الذي يقول أني سأدخل مع الملك أمامكم، وأنتِ تدخلين مع زوجتي خلفنا!»
ولم ينتظر عبد الناصر رد الملكة ولكنه مد يده إلى يد الملك واصطحبه للدخول للقاعة، وترك الملكة وزوجته تدخلان وراءهما وضاع بروتوكول أوروبا، أمام برتوكول الصعيد الذي فرض نفسه في القصر الملكي!
(2) كيسنجر: بعد رحيل عبد الناصر تحرر الحكام الموالون لنا من ضغط جماهير عبد الناصر
كان هنري كيسنجر مستشارًا للأمن القومي الأمريكي ومن بعدها وزيرًا للخارجية الأمريكية، وجلس نهاية عام 1974 يعطي أركان الإدارة الأمريكية وقتها شرحًا عما حدث في مصر بعد وفاة جمال عبد الناصر، وقال:
أنتم تعرفون أيها السادة أهمية العالم العربي ومصر في قلبه لنا، ونحن لم نكُف يومًا عن دراسة ظواهره، كانت هناك ظاهرة ملفتة للنظر بعد أن اختفى جمال عبد الناصر تبعثرت جماهيره في كل بلد عربي. كانت خطورة عبد الناصر أنه كان تيارًا عريضًا ممتدًا عبر كل الحدود السياسية في العالم العربي. إن ذلك كان يدفع بعض الناس إلى أن يقولوا خطأ أن عبد الناصر يستطيع أن يفعل أي شيء. لم يكن ذلك صحيحًا، لأن عبد الناصر كان مسئولًا أمام هذا التيار إلى جانب أنه يقوده.
كانت هناك علاقة جدلية كما يقول الماركسيون بين الاثنين: التيار وقائده. ولأن التيار الناصري كان أبعد من سلطة حكم عبد الناصر يمتد في بلاد عربية متعددة وبعيدة، فإن وسيلة عبد الناصر للاحتفاظ بقوة هذا التيار إلى جانبه كانت وسيلة وحيدة، وهى أن «يلتزم كاملًا بأهدافه المعلنة التي شدت إليه ولاء جماهيره».
كان هذا الوضع خطرًا، في حقيقة الأمر كان بالغ الخطورة على مصالحنا. لأنه كان يقيد حركتنا. إذا تحدثنا مع عبد الناصر، فإن عبد الناصر كان يكفيه أن يُشير إلى جماهيره وإلى التزامه أمامها. وإذا تحدثنا مع غير عبد الناصر من الملوك العرب، فقد كان الشعور بالخوف والشلل من عبد الناصر وجماهيره هو أول ما يواجهنا ويقطع الطريق على أي حديث، ويعيق تنفيذ أي خطط لنا.
بعد اختفاء عبد الناصر وتبعثر جماهيره أصبح الوضع في المنطقة معقولًا. زالت منه الأسطورة الممتدة عبر كل الحدود. أصبحنا بعد ذلك أمام دول طبيعية.
عندما تكون هناك حركة تاريخية عامة ونشيطة في منطقة من مناطق العالم، فإن التعامل معها يكون صعبًا. حساب مثل هذه الحركات ليس سهلًا، لأن عناصر القوة غير المنظورة تُصبح أشد تأثيرًا من عوامل القوة المنظورة.
بعد اختفاء عبد الناصر وجماهيره، أصبحنا أمام مجموعة دول في العالم العربي، تُمسك بأمورها حكومات مسيطرة بغير اعتراض مؤثر داخل أوطانها.
بعد رحيل عبد الناصر خرجت الجماهير من المعادلة، وأصبح التفاهم يتم مع حكام تلك المنطقة، وبعيدًا عن شعوبها التي لا يرضيها خططنا.
(3) في القمة العربية: الملك فيصل يرفض الجلوس وسط حاملي المسدسات! وعبد الناصر يسأل عرفات: ما هو الهدف؟
حدث في مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في القاهرة 1970 لإنهاء القتال بين الملك حسين ومنظمة التحرير الفلسطينية، كانت هناك جلسة بعد الظهر عاصفة، فقد حضرها الملك حسين لأول مرة.
وكان الجو متوترًا قبل أن يدخل عبد الناصر، فقد كان الملك حسين مع بعض ضباطه في ركن من القاعة.
وكان ياسر عرفات على مقعد في صدرها يضبط أعصابه بالكاد.
وكان الملك فيصل في مقعده واضعًا يده على خده يفكر، وكان ياسر عرفات على وشك أن ينفجر.
ودخل وقتها العقيد معمر القذافي يجلس إلى جوار ياسر عرفات.
وانتقل الأستاذ محمد حسنين هيكل (وزير الإعلام وقتها) إلى حيث كان الملك فيصل جالسًا، وقال له:
«ألا تُريد جلالتك أن تقوم بعملية نزع سلاح في هذه القاعة؟».
والتفت الملك فيصل إلى هيكل يسأله عما يقصد، وقال هيكل:
«إن الملك حسين يُعلق مُسدسًا في وسطه، وياسر عرفات يعلق مُسدسًا في وسطه، ومعمر القذافي يُعلق مُسدسًا في وسطه، والجو كله مشحون».
وقال الملك فيصل: «لا أعرف في الحقيقة… هل جئنا إلى هنا لنتفاهم أو لنتقاتل؟».
ثم استطرد الملك:
«ولكني لا أستطيع أن أنزع سلاح أحد، ربما يستطيع فخامة الرئيس عبد الناصر، هو وحده الذي يستطيع».
وأشار الملك إلى باب القاعة، وكان الرئيس عبد الناصر يدخل منها في تلك اللحظة ويتجه نحونا، وقال له الملك فيصل:
«فخامة الرئيس، لا أريد أن أجلس وسط كل هذه المسدسات».
وقال الرئيس مبتسمًا:
«لا عليك، سوف أجلس أنا وسط هذه المسدسات، وتفضل أنت فاجلس في مكاني».
و بعد انتهاء الجلسة ذهب المجتمعون للراحة، وجاءه الملك حسين غاضبًا مُستفزًا مُشتكيًا من ياسر عرفات، وقال له عبد الناصر:
أنا أعرف أنهم تطاولوا عليك وعلى الأردن، ولكني أمانة أمام الله وأمام الأمة أحذر من اتخاذ أسلوبهم في التعامل معك أو معي رخصة لضربهم أو لتصفية القضية الفلسطينية. وأنا أفرق دائمًا بين قضية فلسطين وهي مسئوليتنا جميعًا، وبين مواقف أي عناصر فلسطينية بالذات.
وأضاف عبد الناصر: رأيي أن قضية فلسطين أكبر من أي فصيل فلسطيني حتى وإن ادعى بالثورة المسلحة للتحرير (هذا كان في الماضي حينما كان عرفات والمنظمة يرفعون شعار «إنها لثورة إلى نصر»!، وقبل أن يدخلوا إلى دهاليز «سلام الشجعان» كما ردد عرفات ذلك بعد احتضان إسحاق رابين وحمامة السلام شيمون بيريز!)، ولهذا فإن علينا مسئولية المحافظة عليهم وحمايتهم حتى من أنفسهم!
وبعد فترة قليلة من خروج الملك حسين، جاء السيد محمد أحمد (سكرتير عبد الناصر الشخصي) يُسلم عبد الناصر رسالة بعث بها ياسر عرفات، الذي كان يقيم في الدور الرابع من الفندق.
وسأله الرئيس عما بها، ورد محمد أحمد:
«إن ياسر تلقى معلومات من عمان بأن الجيش الأردني يكثف هجماته، لتتم له السيطرة على عمان الليلة، وهو يريد تعليمات تصدر إلى ضباط المراقبة المصريين الذين سافروا هذا الصباح إلى عمان، لكي يباشروا عملهم، وبالذات في منطقة الأشرفية».
وقال الرئيس: «فلنطلب ياسر عرفات نبحث معه مشروع الاتفاق قبل الجلسة، واسألوا أيضًا إذا كان معمر القذافي قد وصل وينضم إلينا هُنا».
وجاء ياسر عرفات، وكان منفعلًا، وبادر إلى القول، موجهًا حديثه إلى الرئيس:
«سيادة الرئيس، كيف نستطيع أن نأتمن هؤلاء الناس وهم هناك مصرون على التصفية بينما نحن هنا نتباحث،لا فائدة،وليس أمامنا إلا أن نهد الدنيا على رؤوسهم ورؤوسنا، ولتكن النتيجة ما تكون».
وقال الرئيس: «ياسر، لا يجب لأي شيء الآن أن يجعلنا نفقد أعصابنا، لا بد أن نسأل أنفسنا طول الوقت: ما هو الهدف؟
الهدف كما اتفقنا هو وقف إطلاق النار بأسرع ما يمكن.
إنني تحركت من أجل هذا الهدف، بناءً على تقديري للظروف، وبناء على طلبك أنت لي من أول لحظة.
إن موقفكم في عمّان مُرهق، ورجالكم في أربد عُرضة للحصار، ولقد قلت لك من أول دقيقة إننا لا نستطيع مساعدتكم بتدخل عسكري مباشر من جانبنا، لأن ذلك خطأ، لأن معناه أنني سأترك إسرائيل لأحارب في الأردن.
كما أن ذلك إذا حدث سوف يفتح الباب لتدخلات أجنبية تنتظر هذه اللحظة، إنني أحاول أن أكسب وقتًا لكي أستطيع زيادة قدرتكم على المقاومة، ولتصلوا إلى حل معقول.
إنني خلال الأيام الأخيرة فتحت لكم أبواب كل ما أردتموه من سلاح وذخيرة.
كما أنني أرسلت لكم بالطائرات رجال الكتائب الفلسطينية الثلاث من جيش التحرير التي كانت موجودة على الجبهة المصرية لكي تعزز موقفكم.
وأنت تعرف أنني بعثت إلى بريجنيف (الزعيم السوفيتي وقتها) لكي يضغط الاتحاد السوفيتي بكل قوته على الولايات المتحدة الأمريكية حتى لا تتدخل، ولقد بعثت أنت لي تطلب مني أن أفعل ذلك وقد فعلته.
كل ذلك في سبيل أن نكسب وقتًا نحول فيه دون ضربة قاصمة توجه للمقاومة، وتعوق كذلك وحدة قوى النضال العربي».
واستطرد عبد الناصر:
إنني حرقت دمي خلال الأيام الأخيرة لكي أحافظ عليكم، وكان أسهل الأشياء بالنسبة لي أن أصدر بيانًا إنشائيًا قويًا، أعلن فيه تأييدي لكم، ثم أعطيكم محطة إذاعة تقولون منها ما تشاؤون ضد الملك،ثم أريح نفسي وأجلس لأتفرج.
«لكني، بضميري، وبالمسئولية لم أقبل ذلك».
واستطرد عبد الناصر: «إنني أستطيع أن أنهي المؤتمر هذه اللحظة، إن المؤتمر من وجهة النظر السياسية قد حقق كثيرًا.
ذهب الأخ النميري أول مرة وعاد بأربعة من زعماء المقاومة استخلصهم بالضغط من السجن.
وذهب الأخ النميري مرة ثانية وعاد بك. ثم صدر عنا بتقرير النميري والبعثة التي رافقته إلى عمان، تقرير أوضح الحقيقة كلها، وشكل قوة ضغط سياسية هائلة.
أستطيع أن أترك الأمور على هذا الحد وأستريح. ولكني أسأل نفسي وأسألك: ما هو الهدف؟
هذا هو السؤال الذي يجب ألا ننساه.
هدفنا ما زال هو وقف إطلاق النار، لإعطائكم فرصة لإعادة تقدير موقفكم، وإعادة تجميع قواكم.
ونحن الآن أمام فرصة للاتفاق، هل نحاول؟ أو نسكت وننسى هدفنا.
لك القرار، لأن موقفي منذ اللحظة الأولى كان من أجلكم، من أجل حمايتكم وحماية الناس الذين لا ذنب لهم، والذين هم الآن قتلى لا يجدون من يدفنهم، وجرحى لا يجدون من يعالجهم، وشاردون بين الأنقاض، أطفالًا ونساء، يبحثون في يأس عن أبسط حق للإنسان وهو حق الأمن على حياته!».
وسكت عبد الناصر، وساد الصمت لحظة.
ودخل العقيد معمر القذافي وجاء بعده السيد محمد أحمد يقول إن كل الملوك والرؤساء بدؤوا يفدون على القاعة في انتظار بدء الاجتماع.
وقال الرئيس عبد الناصر: هل نذهب لنفض الاجتماع، أو لنواصل الحديث، سعيًا وراء هدفنا؟
وقال الرئيس نميري: على بركة الله نذهب.
وقام الجميع إلى المصعد نازلين إلى قاعة الاجتماعات في الدور الثاني، وكان ياسر عرفات يقول:
«له الله، كُتب عليه أن يحمل هموم العرب كلهم، وخطاياهم أيضًا».
(4) رئيس البنوك السويسرية الذي أرهقته المخابرات المركزية الأمريكية بسبب جمال عبد الناصر!
وقائع القصة كما يقول الأستاذ (أحمد بهاء الدين في كتابه محاورتي مع السادات) دارت في الكويت عام 1976 أثناء زيارة الرئيس أنور السادات إليها، وكان أحمد بهاء الدين يقيم فيها وقتئذ ويشغل موقع رئيس تحرير مجلة العربي، وكان السادات يطلبه من الكويت في مناسبات معينة، إما لكتابة خطاب سياسي هام له، أو للتشاور في بعض الأمور.
يحكى بهاء: أن هذه الزيارة بالتحديد من السادات إلى الكويت، جاءت في ظرف سيئ تمثل في الحملة الشرسة ضد ثورة يوليو عام 1952 وضد جمال عبد الناصر، ويقول بهاء: «كانت هذه الحملة قد وصلت في مصر إلى أقصاها، وكان هذا يلقى اشمئزازًا شديدًا من الرأي العام والصحافة في البلاد العربية بوجه عام».
يُضيف بهاء: «كان الاعتقاد الشائع، وهو في تقديري صحيح تماما، أن السادات هو مخطط وموجه هذه الحملة، وأنه يُسخر صفحات الإعلام المصري لحزب الانتقام من الثورة ومن جمال عبد الناصر، وكان كلما اشتدت الحملة وبدأت تحدث رد فعل مضاد، ينتهز السادات مناسبة في إحدى خطبه ليعلن أنه أمين على اسم عبد الناصر وسمعته وعائلته، ولكن بطريقة لا يخفى على أحد أنها تمثيلية على طريقة خطبة أنطونيو المشهورة: «ولكن بروتس رجل نبيل»، وقد صارت عبارة «الله يرحمه»، كلما ذكر جمال عبد الناصر نكتة شائعة إذ كان كل من يسمعها يفهمها على أنها تعني العكس تماما».
يُضيف بهاء: «كانت إحدى قمم تلك الحملة هي اتهام جمال عبد الناصر بأنه اختلس 10 ملايين دولار، كانت قرضًا من الملك سعود لمصر، وأمر السادات بتشكيل لجنة لبحث الموضوع تحت ضغط الرأي العام، وحين تم التقرير الذي أكد براءة عبد الناصر من هذا الاتهام السخيف الرخيص، كان السادات يلقي خطابًا في البرلمان، فأعلن أن التقرير يبرئ عبد الناصر وأنه يودع التقرير أمانة مجلس الشعب»، ولم يُنشر التقرير على الناس، وتلك كانت طريقته «السادات» في بقاء الشبهة تحوم في الفضاء».
ويصل بهاء إلى الربط بين زيارة السادات إلى الكويت وحملة الهجوم على عبد الناصر، بقوله: إن يوم الزيارة صادف تصديق مجلس الأمة الكويتي على آخر اتفاقية تكمل انسحاب الشركة الإنجليزية التي كانت تحتكر بترول الكويت، وتسليمها آخر ما بقي من نصيب لها إلى حكومة الكويت.
ويستطرد بهاء: أن النواب الكويتيين من كل الاتجاهات انتهزوا الفرصة، ليردد كل منهم في تعليقه على نجاح الكويت في المفاوضات وفي امتلاك بترولها كله، أنه لا بد في هذه المناسبة من ذكر جمال عبد الناصر الذي كان أول من قال «بترول العرب للعرب»، في وقت كان يبدو فيه هذا الكلام حديث خرافة، وذكره في كفاحه الطويل لتكسير أنياب الأسد البريطاني مما جعل إنجلترا تغير سياستها، وتسلم على مائدة المفاوضات بما لم يكن أحد يستطيع أن يحدثها فيه.
ويؤكد بهاء أن جزءًا من خطابات هؤلاء النواب كان مقصودًا به أن يسمعه أنور السادات. وكان بهاء مدعوًا إلى مأدبة العشاء الرسمية التي أقيمت للسادات، وفي هذه المأدبة وقع حادث غريب ومفاجئ، يرويه بهاء قائلا: إن أحد كبار القوم من الكويتيين تقدم إلى السادات وقال له على مسمع من الموجودين المحيطين:
يا سيادة الرئيس، نحن لا نقبل أن يقال في مصر إن جمال عبد الناصر قد اختلس 10 ملايين جنيه، وأنا شخصيًا ويشهد كل الإخوان الواقفين، كنت ضد جمال عبد الناصر، وكنت ضد حرب اليمن بالذات، ولكن أن يُقال إن جمال عبد الناصر الذي كانت خزائن مصر كلها في يديه، وخزائن العرب إذا شاء، قد اختلس 10 ملايين دولار، فهذا عار على الأمة العربية كلها التي كان جمال عبد الناصر، شئنا أم أبينا، رمزًا لها في العالم كله، وإنني أطلب من سيادتك أن تقول لنا أي مبلغ ترون أنه في ذمة جمال عبد الناصر للخزانة المصرية، وسوف ندعو الشعب الكويتي للتبرع به وتسديده عنه، وسيجمع الشعب الكويتي أي مبلغ في أقل من 24 ساعة.
وينتقل أحمد بهاء الدين في سرد باقي فصول هذه القصة قائلا: «كان رئيس اللجنة الذي اختير لفحص الموضوع وتقديم التقرير هو المرحوم الدكتور «علي الجريتلي»، أحد أنبغ خبراء وزراء مصر الاقتصاديين وأكثرهم نزاهة وسمعة دولية، واستقال من منصب وزير الاقتصاد من حكومة الثورة عام 1957، ولم يقبل من وقتها، رغم تكرار المناسبات، أي عرض للعودة إلى السلطة، واكتفى بعالم الاقتصاد الخاص والبنوك الدولية».
ويضيف بهاء: أنه قابل الجريتلي مرة بعد حكاية التقرير وإيداعه مجلس الشعب فسأله عن التقرير؟ فرد الجريتلي: «إنني لم أسمح لأحد في اللجنة أن يشاركني في العمل، وقد قمت شخصيًا بمتابعة كل الموضوع حتى الذهاب بنفسي إلى مكتب أصغر موظف في وزارة الخزانة والاقتصاد لفحص كل ملف بنفسي، وقد كانت هذه أول مهمة أقبلها من الدولة الرسمية منذ سنة 1957، وقد قبلتها لأنني كنت واثقًا من النتيجة، فقد كان عبد الناصر أكثر كبرياء من أن يقبل بأي إفساد له».
واستطرد الجريتلي لبهاء قائلا:
«بعد موت عبد الناصر بسنة تقريبًا كنت في مقابلة مع رئيس البنوك السويسرية، وإذا به يقول لي إن المخابرات الأمريكية والمخابرات الإسرائيلية قد «أهلكتنا» شهورًا طويلة، وسألته لماذا؟ فقال لي الرجل السويسري: «لقد حاولوا بأي طريقة العثور على أي حساب باسم جمال عبد الناصر فلم يجدوا».
ولو زدت ولعل الزيادة لا تكون تزيُدًا، فلو قُدر لي أن أقول كلمة للزعيم جمال عبد الناصر لقلت له ما قاله الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين وهو يقبل رأس فلاديمير لينين بعد موته: «عشت عزيزًا ومُت طيبًا أيها الرفيق».
أما أنا فسأقبل رأسهُ وأقول له: «حُورِبتَ حيًا وشُوهتَ ميتًا أيها الرفيق»
ولكن هيهات فلا زلت برغم رحيلك عن دُنيانا مُنتصرًا عليهم وراياتُك تُرفرف في قلوب عشاقك.
The post جمال عبد الناصر.. عندما انتصر بروتوكول الصعيد على بروتوكول أوروبا! appeared first on ساسة بوست.
COMMENTS