لابدّ من انهيار المقدّس I: الكوميديا

تتغلغل الأعراف والمقدّسات في أجسادنا ولحومنا، هي ليست مجموعة من الكلمات والقواعد المتفق عليها فقط، سواء كانت "صحيحة" أو "خاط...

لابدّ من انهيار المقدّس I: الكوميديا

تتغلغل الأعراف والمقدّسات في أجسادنا ولحومنا، هي ليست مجموعة من الكلمات والقواعد المتفق عليها فقط، سواء كانت "صحيحة" أو "خاطئة"، بل هي حقائق جسديّة نمارسها ونسلّم بكونها ذات منفعة، وتأتي شدّتها من جدواها، فكلّما تكرّرت، كلّما حصلنا على فائدة منها، كـأعراف "الرجولة" و"رفض المختلف" و"احترام الأديان"، هي مفاهيم لا نناقش حقيقتها كونها تشكّلنا وتحدّد وعينا بالعالم.

لكن تكراراً يختزن داخله خطأ أو سوء تكرار يزحزح العرف، وما يضبط انزياح العرف وحفاظه على سلطته هو القوى المحيطة به، المؤمنون به وما يدعمه من أشكال سياسيّة وثقافيّة تحافظ عليه، حتى لو كان يدعو للتهميش والقمع وانتصار فئة على أخرى، فقوّة العرف ليست في جوهره، بل في قدرته على إنتاج الشكل القائم.

تضبط الأعراف أنظمة الأيمان والتابوهات، وتحرّك أشكال المنع وتحدّد ما يشكّل تهديداً لها، تنفيها وتمنعها من الظهور، كحالة المثليين أو قضايا الدين والسيادة السياسيّة، ولا نقصد هنا القوانين الواضحة التي تجرّم مهاجمة هذه التابوهات، بل الإيمان الشخصيّ الدفين الذي نتصرّف على أساسه دون وعي.

وأشدّ التهديدات لنظام الإيمان هذا هو "الكوميديا" بوصفها موقفاً من العالم، يشير إلى أن هناك عطب فيما يحصل من حولنا، وأن الشكل القائم و ما نؤمن به شخصياً، فيه خطأ، وهذا ما ينعكس في تاريخ الكوميديين بوصفهم منفيين و مهمّشين وأحياناً أعداء للسلطة.

تخلخل الكوميديا العرف وتسخر من التابو لأنها تكشف سذاجته وتكوينه الرمزيّ إلى جانب عيوبه وضرره على الآخرين، وتوضّح الجهاز الذي نقوم على أساسه بمهاجمة تصنيف ما وحماية آخر، في الأعمال الكوميديّة الضخمة من مسرحيات وأفلام مختلفة وحتى في النكات السمجة، التي تمتلك قيمة نقديّة، والتي تبدو وكأننا نكرّر طرح سؤال ساذج وهو: "لماذا؟" الذي قد ينتهي بالتأنيب، مثلاً:

- الطالب: لماذا لا تلعب رباب بالكرة؟

- الأستاذ: لأنها تجلي الصحون.

- الطالب: لماذا تجلي الصحون؟

- الأستاذ: لأنها فتاة تبقى في المنزل كما في الصورة في الكتاب وتجلي الصحون.

- الطالب: لماذا؟

- الأستاذ: لأنها فتاة والفتيات يعملن في المنزل؟

- الطالب: لماذا؟

- الأستاذ: لأن والدتها تعمل في المنزل وعليها مساعدتها.

- الطالب: لماذا؟

- الأستاذ: لأنها تربت هكذا..

هذه النكتة التافهة والساذجة التي تتكرّر إلى ما لانهاية، تكشف بعمق عن أعراف التربية الاجتماعيّة وكيفية تطبيقها وتناقلها، والعقوبة التي قد ينالها الفرد /الطالب في حال تابع سؤال "لماذا"، نعم نضحك من سذاجته، لكننا نتلمّس وبوضوح كيف يتمّ تكوين العرف، بسلطة تدّعي المعرفة "المعلّم" والعقوبة في حال مسائلة العرف "سؤال لماذا؟"

الكوميديا كأداة لا تكون فعّالة إلا بتكرارها من قبل الجميع، وإلا تتحوّل إلى وسيلة استكانة، وامتياز تمنحه السلطة السياسيّة والاجتماعيّة، مثلاً لماذا يمتلك الممثل السوري دريد لحام فقط أحقية انتقاد السلطة و"التنكيت" عليها، والبقية ممنوعون عن ذلك ويتهامسون سرّاً وخوفاً من أعين رقيب ما؟

أقوال جاهزة

شارك غردالكوميديا إن كانت محصورة في إطار "التسلية" تتحوّل إلى مخدّر لا إلى فعل اجتماعيّ يساهم في تغيير المعتقدات

شارك غردلا يمكن تغيير العالم بنكتة أو مسرحية كوميديّة، لكن يمكن الإشارة إلى العطب فيه، واستخدام المنتجات الثقافيّة في إطار الكوميديا للكشف عن مساوئه والسعي لتغييره

الكوميديا إن كانت محصورة في إطار "التسلية" تتحوّل إلى مخدّر لا إلى فعل اجتماعيّ يساهم في تغيير المعتقدات، وهذا ما يهدّد السلطة نفسها، ولو كانت كلمة فحسب، فديمقراطيّة الكوميديا تكسر الخوف وتفكّك المقدس، كما في مصر وكلمة "بلحة" في إشارة ساخرة إلى الرئيس السيسي.

لا يمكن تغيير العالم بنكتة أو مسرحية كوميديّة، لكن يمكن الإشارة إلى العطب فيه، واستخدام المنتجات الثقافيّة في إطار الكوميديا للكشف عن مساوئه والسعي لتغييره، كفيديوهات نظرية المؤامرة التي ترى أن كاتب family guy، سيث ماكفارلن كان يسرّب معلومات خفيّة عن أسرار هوليوود وحالات التحرّش الجنسي فيها. 


الأمر إشكالي في العالم العربيّ، يحقّ للجميع تبادل النكات عن اللاجئين وإنتاج فنون مختلفة عن حكاياتهم بصورة كوميديّة، لكن المشكلة تكمن في الإشارة للجاني، وهذا ما نراه في الكوميديا التي يحتويها مسلسل بقعة ضوء مثلاً في إنتاجاته الحديثة، فمن الذي تسبّب بتهجير الناس وسوقهم نحو موتهم، البحر، أوروبا، أم بشار الأسد؟

يمكن صناعة نكتة وكوميديا في حال أجبنا عن سؤال لماذا، بأي واحد من الأجوبة السابقة، وهنا تكمن خطورة الكوميديا كسلاح، إذ يمكن لها ترسيخ الشكل القائم وأعرافه وقوانينه، وتبرير العنف الناتج عنه، كون لا جدّيتها تتيح تسلّل مضامينها إلى الحياة "الجديّة" دون إدراكنا لذلك، كالنكات التي تستهدف المثليين والنساء، التي إما تهينهم أو تدعو للانتصار لهم.

و هنا يبرز الأسلوب، والقدرة على إلقاء النكتة، وهذا ما يشرحه جيري سانفيلد في كيفية اختباره للإضحاك وأثره على السامع واستخدامه لكلمة "bitch" التي يسمّي الضحك الناتج عنها بالرخيص، ويمكن الحصول على ذات التأثير في حال عدم نطقها.

لا نقول إن هناك حدود أو تابو أو عيوب في استخدام الكوميديا، لكنها نتيجة عطب في العالم وشروطه الحاليّة، وهنا تبرز أهميّة التعامل الجدّي معها وإتقان صناعتها كسلاح أيديولوجيّ، يساهم في رسم إطار الأعراف، المعتقدات والمحرّمات، لتكون الكوميديا أشبه بقرين لا جدّي لما نؤمن به.

The post لابدّ من انهيار المقدّس I: الكوميديا appeared first on رصيف22.

COMMENTS

الاسم

أخبار,88,القدس العربي,4,القدس العربي Alquds Newspaper,60,اليمن,25,إنفوغراف,23,ترجمات,177,رصيف 22,1047,ساسة بوست,507,سياسة,330,كاريكاتير,65,كتابات,1,
rtl
item
aajilpost: لابدّ من انهيار المقدّس I: الكوميديا
لابدّ من انهيار المقدّس I: الكوميديا
https://raseef22.com/wp-content/uploads/2019/03/MAIN_EverythingThatIsSacredComedy-620x569.jpg
https://i.ytimg.com/vi/6k2rqeSQtLY/default.jpg
aajilpost
https://aajilpost.blogspot.com/2019/03/i.html
https://aajilpost.blogspot.com/
http://aajilpost.blogspot.com/
http://aajilpost.blogspot.com/2019/03/i.html
true
3412385559966603101
UTF-8
تحميل جميع المشاركات لم يتم العثور على أي مشاركة عرض الكل إقرأ المزيد الرد إلغاء الرد حذف عبر الرئيسية صفحة رقم المشاركات عرض الموضوع بالكامل مواضيع متعلقة قسم إرشيف بحث جميع المشاركات لم يتم العثور على شيء مطابق العودة إلى الرئيسية الأحد الآثنين الثلثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت Sun Mon Tue Wed Thu Fri Sat يناير فبراير مارس إبريل مايو يونيو يوليو أغسطس سبتمبر أكتوبر نوفمبر ديسمبر Jan Feb Mar Apr مايو Jun Jul Aug Sep Oct Nov Dec الآن منذ 1 دقيقة $$1$$ minutes ago منذ 1 ساعة $$1$$ hours ago يوم أمس $$1$$ days ago $$1$$ weeks ago منذ أكثر من 5 أسابيع متابعون إتبع THIS CONTENT IS PREMIUM Please share to unlock نسخ الرمز بالكامل تحديد الرمز بالكامل تم نسخ جميع الرموز إلى الحافظة الخاصة بك Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy