نواكشوط ـ «القدس العربي» ـ عبدالله مولود: لعل أكثر الباكين على شبابهم، هم الشعراء العرب القدامى الذين تزخر دواوينهم بالمقطوعات الأدبية ال...
نواكشوط ـ «القدس العربي» ـ عبدالله مولود: لعل أكثر الباكين على شبابهم، هم الشعراء العرب القدامى الذين تزخر دواوينهم بالمقطوعات الأدبية التي يتمنون فيها عودة شبابهم ليخبروه بما فعل بهم المشيب.
تمر مرحلة الشباب والإنسان مختطف بحيويتها غير منتبه لزوالها القريب ودخول صاحبها مرحلة التجاعيد بدل النضارة والضعف والشيبة بعد القوة.
تقول الباحثة الموريتانية امباركه البراء «لم يحظ موضوع بعناية الشعراء أكثر مما حظي موضوع التقدم في العمر، ولم يبك الشاعر العربي شيئا مثلما بكى أيام الشباب، وانحسار القوة والعنفوان، ولم يجزع لشيء مثلما جزع لحلول المشيب، وما يصاحبه من الضعف والعجز، ولعل هذا ما جعله يتحامل على الزمن أو الدهر، ويرى أنه السبب وراء كل ما يجرى له من تبدل وتراجع».
لذلك، تضيف الباحثة، «ظلت علاقة الشاعر بالزمن علاقة متوترة، فهو قلما يرضى عنه أو يهادنه، وكثيرا ما جعله الإحساس بتأثير الزمن عليه، يتوقف ليرى ما حدث له، مستمدا العبرة والحكمة من منقلباته وتحولاته».
وعلل المتنبي أسباب حزن الإنسان كلما تقدم به العمر تعليلا منطقيا، حيث رأى أن متعة الحياة لا تكون إلا مع توفر الصحة والشباب، فإذا انحسرا لم يعد للعيش لذة ولا لاستمراره معنى:
آلة ُ الْـعَـيْـشِ صِحَّةٌ وشَبَــابٌ فَـإذَا وَلّيَــا عَـــــنِ الْمَرْءِ وَلّى
وَإذَا الشَّيْـخُ قَـالَ (أُفٍ) فَــمَــا مّلَّ الحياةَ وإنَّمَا الضُّعْـفَ مَلَّا
وتضيف الباحثة بنت البراء «تراجع الشباب من الموضوعات الوجدانية التي عبر عنها الشعراء بحسرة وألم، ومن أكثر من توقف عندها ابن الرومي الذي رأى في تولي الشباب فقدا يستلزم أن يعزَّى الإنسان فيه:
أّأُفْـجَـعُ بِالشَّـبَـابِ وَلَا أُعَـزَّى لَقَـدْ غَفَـلَ الْمُعَـزِّي عَـنْ مُصَابِي
ولا شكَّ أن تولي هذه الفترة هو إيذان بالتحول على المستويين الفيسيولوجي والنفسي، وبداية لتراجع القوى البدنية والذهنية، مما يجعل الشاعر شديد الحساسية تجاه تلك التحولات التي وقعت له، والتي تتطلب تغييرا في السلوك ومراقبة للنفس، فما كان يصلح له لم يعد يصلح، وما ظل يليق به في سن الشباب لم يعد يليق به في مرحلة الاكتهال، فلكل فترة عمرية متطلباتها ومقتضياتها.
كل هذه الأسباب تجعل مرحلة المشيب مرحلة فارقة في حياة الشاعر، خاصة وأن الشاعر هو الإنسان المرهف الإحساس والبليغ التأثر بالأحداث، لذلك ما إن تلوح أولى تباشير الشيب في شعره، حتى يبدأ في التأسف على ربيع العمر الذي ولى والقوة التي تراجعت والزمن الذي لا يمكن استرداده. ولعل هذا الإحساس المأساوي الحزين راجع إلى خوف الإنسان الفطري من النهاية، فما إن يتبدل سواد الشعر بياضا، حتى يدق ناقوس الخطر، ويعلم أنه أصبح أسيرا للحظة الفناء.
ويربط الشعراء العرب كثيرا بين المشيب والموت، ويرون كما تشي بذلك أشعارهم أن المشيب نذير له وباب مشرع إليه.
وولع الإنسان بالحياة يجعله ينفر من كل ما من شأنه أن يحد منها، أو يضع نهاية لها، رغم أن الموت ملازم للحياة، وأن الإنسان خلق ليفنى، ولكن طول الأمل الذي جُبل عليه المرْء يشده دوما إلى البقاء، ويجعله يعاند هذه الحقيقة.
ويمثل التحسر على مرحلة الشباب جزءا من الحديث عن المشيب، وكثيرا ما يجري الشاعر مقارنة بين الفترتين متأسيا على الأولى ورافضا الثانية؛ فالشاعر الفرزدق يستسلم للمشيب متحسرا ويرى فيه بضاعة خاسرة، تختلف عن بضاعته الرابحة التي كانت معه أيام الشباب؛ إنها نظرة مادية تعتمد مبدأ الربح والخسارة:
إنَّ الشبابَ لَرَابِحٌ مَــنْ بَاعَــــــهُ والشيبُ ليسَ لبائعيهِ تِجَــــارُ
وتؤكد الباحثة بنت البراء «أن ارتباط الحديث عن الشيب بذكر المرأة، مطرد لدى الشعراء، فقلما يذكر المشيب إلا واقترن بذكر المرأة، فهي شريك الحياة الذي لا يمكن أن يستغني عنه الشاعر، لذا كان هاجسه الأول عندما يشيب هو صدودها عنه أو رفضها له، وهو ما يجعله يحرم فيض الحنان الذي ظل ينعم به إلى جانبها أيام الشباب».
وهاجس صدود المرأة، يجعل الشاعر يتحامل عليها، فيذكرها ببطولاته وإنجازاته، ويصفها بالغدر وعدم الوفاء؛ وهو ما أثبته علقمة الفحل الشاعر الجاهلي، وصاغه في شكل مسلمة ثابتة؛ مصورا تأثير المشيب على الحياة العاطفية، وكيف يصبح الرجل مرفوضا بعدما كان مرغوبا من طرف الحسان:
وإنْ تَسْأَلُــــونِي بِالنِّـسَـاءِ فَإِنَّنِـــي خبيرٌ بأسرارِ النساءِ طبيبُ
إذا شابَ رأسُ المرءِ أو قلَّ مالُهُ فَـليْسَ لَهُ مِنْ وِدِّهِنَّ نصيبُ
وعموما فإن إحساس الشاعر بوطأة الزمن، وخوفه من النهاية، جعل الحديث عن الشيب يحتل مكانا بارزا في شعره، وارتبط ظهوره بفقد الكثير من متع الحياة، مما جعله يندب أيام الشباب، ويتمنى لو يستطيع استردادها، كما جعله هذا الإحساس بالتحول، يفكر في الدار الأخرى وينيب بالتوبة إلى الله.
لقد حملت ثيمة المشيب في الشعر العربي قلق الإنسان من الفناء، وتمسكه بالحياة، وعبرت عن فلسفة عميقة تجاه الزمان، والحياة والموت، والحب أيضا.
COMMENTS