قادتني المصادفة إلى ان استمع لنمط من الغناء العربي يبتعد في شكله ومضمونه عن ما هو سائد، ومن ثم عرفت بانه شكل من الغناء الصوفي، واضح ان من...
قادتني المصادفة إلى ان استمع لنمط من الغناء العربي يبتعد في شكله ومضمونه عن ما هو سائد، ومن ثم عرفت بانه شكل من الغناء الصوفي، واضح ان من يمارسه ينبغي ان يكون على درجة عالية من التمكن في اتقان المقامات بالإضافة إلى مساحة صوتية واسعة تتوفر فيها جوابات عالية مع قرار فذ قادر على مخاطبة الروح. وتتنوع هذه التجارب باختلاف المناخ التراثي والمقدرة على الحفاظ عليه ومحاولة تطويره.
الحالة المصرية
هذا المسار الغنائي له جذور عميقة في التراث المصري الديني الإسلامي والمسيحي (القبطي) على حد سواء وان هناك علاقة تعاون بين المشايخ والآباء المسيحيين في الصعيد المصري تهدف في سعيها إلى الحفاظ على هذا التراث بكل ما يحمله من خصوصية في الأداء وذلك لارتباطه بحياتهم العقائدية الروحية قبل ان يكون شكلا غنائيا للتسلية والمتعة الآنية، ولهذا سنجد عددا من الفرق المصرية قديما وحديثا تمثل هذا اللون من الغناء الذي لم ينقطع ولم يتأثر بالظواهر الغنائية التي تظهر وتتغير دائما في ساحة الغناء المصري والعربي، ذلك لأنه جزء أصيل من الوجدان الجمعي للتعبير عن الإيمان، إذ يحمل درجة سامية من التعبير عن العشق الإلهي، من هنا ليس مستغربا ان الكلام المُغنَّى يعتمد بشكل جوهري على أشعار المتصوفة القدماء إضافة إلى أشعار حديثة.
تضم هذه الفرق أصواتا ذات إمكانات وثقافة متميزة، لعل أبرزها الفنان الشاب علي الهلباوي وكذلك زميله وائل الفشني، والمنشد المعمم ايهاب يونس، الذي يمتلك قدرات ساحرة في الأداء ربما تضعه في درجة لن يجاريه فيها مؤد آخر. كما أدخلت آلات وترية مثل الكمان والجلو والعود إضافة إلى البيانو وكذلك آلة الدرامز لتضاف إلى بقية الآلات النقرية التقليدية، وهذا ما نجده في الفرق التي تصاحب الهلباوي والفشني على سبيل المثال، ولم يقتصر الأمر على ذلك، انما تم استخدام أساليب جديدة في الأداء الذي عادة ما يكون مصحوبا ببناء موسيقي يجمع ما بين ملامح الموسيقى الشرقية بكل شجنها والبناء الموسيقي الغربي في إطاره السيمفوني المُركَّب. سبق كل هذه الأصوات الشيخ احمد التوني، القادم من الصعيد المصري، ويعد رائدا معاصرا في هذا المجال وسبق له ان قدم تجاربه خارج مصر في باريس وغيرها من الدول الأوروبية بصحبة فرقته التي تتشكل من عازفين فطريين ينقرون على الدفوف وآلات ايقاعية أخرى تقليدية، وما يستحق الإشادة به ان فرقا موسيقية أوروبية اسبانية تعتمد على آلة الغيتار قد شاركته في بعض حفلاته فنتج عن ذلك مزيجا ساحرا ما بين الشرق والغرب جمع بين الأداء الفطري والأداء الموسيقي الأوروبي بتقنياته العالية في العزف.
الحالة المغربية
من ناحية أخرى نجد في المغرب العربي على وجه الخصوص انشدادا نحو الأخذ بهذا النمط من الأداء إلى ضفاف جديدة تضفي عليه تحلية وتصرفا ليست من ضمن القوالب الأدائية المتوارثة أو في طبيعة التركيبة التي تتألف منها الفرق الموسيقية المصاحبة كما في فرقة «جيل جيلالة» التي نشطت في المغرب منذ مطلع سبيعنات القرن الماضي وذاع صيتها في معظم أرجاء المنطقة العربية وخارجها وتشكلت على أثرها عدد من الفرق وهي تقلدها شكلا ومضمونا.
الحالة العراقية
للأسف لم نجد في الساحة الغنائية العراقية مثل هذا النمط من الأداء الخالي من الفوضى والعشوائية والرداءة، سواء في اللحن أو الكلام كما هو شائع هذه الأيام، ولعلنا نجده في الفرق التقليدية الدينية التي تُحْيي الموالد خاصة في ذكرى مولد النبي محمد، وما يؤخذ على هذه الفرق انها تعيد إنتاج نمط الأداء والبنية الموسيقية المصاحبة من غير ان يتجرأ أي عنصر فيها على ان يخطو بها إلى منطقة أخرى تحمل شيئا من التجديد والتطوير خاصة في إطار الآلات الموسيقية المصاحبة والبناء اللحني، فبقيت تعتمد فقط على آلات نقرية تقليدية بدائية «دفوف» ولم يحصل ان دخلت أيّ آلة أخرى جديدة إلى منظومتها، ولهذا لن نجد فرقا في أي تسجيل لنتاج هذه الفرق سواء كان ذلك قبل مئة عام أو هذه الأيام، سوى انهم بدأوا يُرَكِّبونَ الأشعار الصوفية أو القصائد التي تتغنى بالنبي محمد على ألحان تعود لأغنيات عاطفية معاصرة شائعة مثل أغاني ناظم الغزالي ويوسف عمر وزهور حسين وآخرين، فلم يُحدِث هذا التوظيف اللحني أي تغيير مهم في المسار الفني، ويمكن تفسير ذلك بوصول هذه الفرق إلى حالة من العجز بما يجعلها تَتَّكئ على ألحان شائعة دون ان يشعر ذلك أفرادها بالقلق من ان هذا الأسلوب من الممكن جدا ان يأخذ ذاكرة المتلقين بعيدا عن الحالة الشعورية بطابعها الروحي الديني إلى ناحية بعيدة عنها إلى حيث الأغنية العاطفية التي ارتبطت بالمطرب صاحب الأغنية الأصلية.
ومما يجدر ذكره في هذا السياق ان الفرق التي تؤدي هذا النمط من الأداء الصوفي في العراق تتواجد في المناطق التي تتبع المذهب السنّي مثل مدن الأنبار والموصل وصلاح الدين وإقليم كردستان وهي كثيرة جدا ولها حضور لافت في المناسبات الدينية وحتى في المناسبات الاجتماعية، حيث تعتمد عليها في احياء حفلات الزواج العائلات المحافظة الملتزمة أو المتزمتة دينيا، فتجد في ذلك مناسبة لكي تَمنَح القصائد والألحان التي تترنم بذكر الله ونبيه محمد البركة لحياة العرسان الجدد. هذه الظاهرة التي انحسرت لفترة ثم ما عادت تظهر منذ ان بدأت جماعات الإسلام السياسي تفرض حضورها في النصف الثاني من العقد السابع للقرن العشرين وتمكنت من ان تمتد وتتوغل عميقا في الحياة الاجتماعية لتسبغ بالتالي حفلات الزواج ببصمتها إضافة إلى حضورها الثابت في المناسبات الدينية، مما يعكس منظومة التفكير المحافظة التي لا تتجرأ على الخروج عما هو متوارث من نتاج بشري، بل انه يكتسب لديها تقديرا مبالغا به، أقرب ما يكون إلى تبجيل متزمت.
مروان ياسين الدليمي
COMMENTS