منذ القصيدة الأولى من ديوانه «الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة»، يعلن الشاعر عبد العزيز المقالح عن معادلٍ موضوعي بينه وبين شعره، أو ب...
منذ القصيدة الأولى من ديوانه «الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة»، يعلن الشاعر عبد العزيز المقالح عن معادلٍ موضوعي بينه وبين شعره، أو بين الشاعر وقصيدته. الشاعر بما هو الذات، والقصيدة بما هي قولُ هذه الذات. الذات التي ليست هي الـ أنا، بل زمانها ومكانها، وهما، أي الزمان والمكان، المدينة صنعاء. صنعاء بما هي تاريخٌ موسومٌ بسلوكات أناسها، وبأجواء حياتهم، وبما هي، هذه الحياة، عاداتٌ وتقاليد ومعتقدات. يقول على لسان القصيدة:
«أنا والشاعر صنوان
أليفان.. غريبان». (ص 6)
يعلّل الشاعرُ هذه المعادلة، بينه وبين شعره، بما هي عليه حالُ الناس في بلده، وبما آلَ إليه زمنهم من اقتتالٍ ودمار وبؤسٍ أفقدَهم أدنى مقوّمات العيش والحياة، وآلَ بهم إلى «حافّة القبر». وهو تعليلٌ لا يخلو من طعم المرارة على لسانه، حتّى لا أقول اليأس، كما لا يُخفي اتّهامَ المسؤولين بالعار والخذلان اتجاه وطنٍ فقد وجودَه بصفته هذه. يقول:
«أنا لا أرى وطناً
لا أرى غير أكوام ناسٍ
على حافّة القبر
يقتتلون على ضفدعٍ ميّت
لا خيول لهم،
لا سيوف
انخذالاتهم تملأ الأرض
حزناً،
قياداتهم.. جنرالاتهم هربوا !
قبل أن يخرج الفجر من رحم الليل». (ص 139)
قد يقارب شعرُ المقالح في ديوانه هذا، وبسبب تعبيراته الدراميّة ومشاعر اليأس، النزعةَ الرومنطيقيّة، ولكنّه ليس رومنطيقيّاً، ذلك أنّه بقي، رغم هذه المرارة، ينْبض بحرارة الانتفاضة ورغبة التغيير التي يتبنّاها، أو يلتزم بها، ويطلبها من كلمات شعره، كما في قوله:
«قلتُ للأحرف النائيات: اقتربن
سأجعل من جسد الكلمات
قصوراً ليسكنها الفقراء». (ص 136)
كما أنّنا، في متابعتنا لهذه الأبيات، نتبيّنُ نزوعاً يبدو، للوهلة الأولى، ما ورائيّاً، إذ يتمثّل بوعد هؤلاء الفقراء بأنواعٍ من الخيرات، بالقمح والفاكهة، وبموائد عامرة بالخبز والعسل وبشرابٍ طهور.
هذي النقود، وكما يقول في مكانٍ آخر، هي التي أفقدتْ المدينة براءتها، وأعادت زمنها إلى «زمن الغاب حيث الدماء تُراق بلا رأفة، أو هدف» (ص 32). كما يتمثّل، هذا الوعي النقيض في دعوته لذاته الشعريّة، وبما هي ذات «شاعر عصَرَ الحرب وعصَرَ الموت»، بأنْ يتمرّد ويخرج «من غرف الكلمات السوداء ومن حانات الأسماء السوداء» (ص 182).
لا يستوي شعرُ المقالح في هذا الديوان على موقفٍ في التعبير عن علاقته بصنعاء، وبما آل إليه واقعُها في زمن الحرب الذي يعيشه الشاعر ويعانيه. ذلك لئن كان الشاعر هو، وكما قال، شعرُه، فإنَّ شعرَ المقالح هو ذاكرةٌ لصنعاء التي عاش وعشق، بل هو استعادةٌ شعريّة لها طافحة بالحياة، كما هو، في الآن نفسه معاينة آسية لما آل إليه واقع هذه المدينة.
هكذا يتداخل الماضي والحاضر، وتتجاور الصور الزمكانيّة وعوالمها في قصائد الديوان، ويتجاور الحب والأسى في روح الشاعر الذي تلحُّ عليه رغبتُه في أن لا يكون سوى شعره. يودُّ أن يُنسى، ربما كي تبقى «الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة»، وكي تقوم من جديد حدائقُ الورود للشعر، وتعود الحياة لسوق الخضار، ويعودُ للنساء الافتتانُ بها، وللعيون تعودُ تلك الألفة التي تتصادى مع النوافذ في «واجهات البيوت القديمة».
تستيقظ صنعاء في شعر الشاعر، تستيقظ من زمنٍ كان لها ولم يعد. تستيقظ وتوقظني على ذلك الزمن الذي عرفْتُ وعايشْتُ. زمن الغادين والغاديات إلى الجامعة ومركز البحوث والدراسات، زمن المقيل والقراءة والنقاش للجديد والمختار من الكتب، زمن القهوة بقشر البن، زمن عقود الياسمين يعرضها عليك أطفالٌ يبتسمون رغم البؤس البادي على هيئاتهم، زمن السوق القديم وسحر ما يفوح فيه من طيب العطور والبخور، وما يُعرض فيه من تحف وحلى وقماش بألف لون ولون.
تستيقظ صنعاء في شعر المقالح من زمن لم يعد لها. تعْبُر في الذاكرة… مجرّد وميض في زمنٍ حاضرٍ قبيح، خرجت فيه «الوحوش من عباءة الإنسان»، وعمّت فيه «حرائقُ الموت»، و«دوراً تهدّمت»، و«أشلاءَ أطفال تمزّقت»، (ص 70ـ71).
يترك هذا الزمن أثره البالغ في نفس الشاعر حتى لكأنّه، وكما يقول، «في القبر من قبل أن يقبروني وفي الموت من قبل ألاّ أموت»، (ص 26)، بل يذهب أبعد من ذلك، إذ يستنكر أن يكون له قبر وملايين الناس الأحياء في وطنه لا يجدون مكاناً على الأرض، يشبه القبر، يأوون إليه (ص 19).
تعدونا المأساة التي يعانيها الشاعر، فهي مأساة وطن يتمثلّها شعرُه كمواطنٍ يتجاوز الفردي الخاصّ إلى الإنساني العام. يتراجع الفردي، بل يتراجع معنى الحياة في جحيم القتل والدمار وفقدان أبسط مقوماتها… ولا يبقى سوى ذاكرة لبلدٍ مغمور بحبِ شاعرٍ لا تسع حبَّه الكلمات.
عبد العزيز المقالح: «الشمس تتناول القهوة في صنعاء القديمة»
دار الآداب، بيروت 2017
214 صفحة.
يمنى العيد
COMMENTS