أخي الكريم، ولا أقول الكريه مهما حصل بيننا: هل تذكر كم ذبابة قتلت في حياتك؟ لا أظنك ستتذكر، ولا أظنك أيضاَ ستتذكر كم ناموسة قتلت؟ أو نمل...
أخي الكريم، ولا أقول الكريه مهما حصل بيننا: هل تذكر كم ذبابة قتلت في حياتك؟
لا أظنك ستتذكر، ولا أظنك أيضاَ ستتذكر كم ناموسة قتلت؟ أو نملة أو صرصاراً أو خنفسة أو عنكبوتاً أو حشرة طائرة أو زاحفة؟ اللهم إلا أن كان الأمر مرتبطاً بملابسات مزعجة أو مقرفة، كأن تكون شرعت في قتل ناموسة تطنّ حول أذنك، فاستقر بها الحال داخلها، أو أن تكون استسلمت للغضب فقتلت ذبابة مزعجة بكتاب استعرته من فتاة تنوي مصارحتها بحبك، أو أن تكون قد قتلت صرصاراً داخل طبق سلطة شهي في مطعم كنت تحب التردد عليه، ولعلك الآن تفترض أن كل هذه وقائع حدثت لي، وقد تكون بالفعل كذلك، لكن هذا ليس موضوعنا الآن.
في الوقت نفسه أظنك ستتذكر التفاصيل والملابسات المرتبطة بقتل أو محاولة قتل فأر أو برص أو سحلية أو عقرب أو ثعبان أو عصفور، أو إذا كان قد سبق لك في لحظات انعدام الضمير التي تمر بالبعض في صباهم، أن شرعت في قتل قطة أو كلب، أو إذا كنت ممن ابتلي بأب يحب إشراك أبنائه في ذبح خروف العيد، ليستعجل التأكيد على رجولتهم، القصد يعني أنك ستتذكر لحظة القتل جيداً، حين لا تكون شائعة الحدوث، أو حين لا تكون سهلة الملابسات، أو حين تكون مرتبطة بما يوجد استنكار جماعي لقتله، أو بما يوجد إجماع على ضرورة قتله، وبالطبع سيترافق تذكرك للتفاصيل بمشاعر تختلف في كل حالة، من الفخر إذا كان ما قتلته مؤذياً، إلى الخجل إذا كان أليفاً، إلى الضحك إذا كانت لحظة القتل مرتبطة بتفاصيل مثيرة للسخرية، وما إلى ذلك من اختلافات ليست هي موضوعنا الآن.
لكن ما هو موضوعنا الآن؟ بالطبع كنت أتمنى أن نغرق في ذكريات الطفولة والفتوة والفتونة، لكن المزاج ليس ملائماً اليوم لهذا الحديث الرائق، لأنني بصراحة مصدوم فيك صدمة الإبل، وللإبل حتماً صدمة، فقد كنت أتوسم فيك رجاحة العقل، وهو ما دفعني لأن أجعلك من أهل الـ «see first» في فيسبوك، لأستمتع بقراءة تعليقاتك على الشأن العام، قبل أن يجري لك شيء ما في الشهور الأخيرة، جعلك تكرر كتابة تدوينات عجيبة الشكل، تستغرب فيها الأفعال العدوانية المتكررة التي يقوم بها عبد الفتاح السيسي في مواجهة معارضيه، وجرأته في الكذب على رؤوس الأشهاد، والتصريحات المنفعلة التي بات يكثر من إطلاقها، بعد أن كان يميل إلى النهج الزلق الملزّق في أحاديثه، والتي كنت تنفق وقتاً طويلاً في تحليلها، فلم أكن أستنكر ذلك منك، لما أعلمه عن شخصيتك الميالة إلى التنظير.
أرجو ألا تتصور أنني راغب في المزايدة عليك، فلعلنا مهما باعدت بيننا الدروب، نحتفظ بكراهية مشتركة للمزايدات، التي طالما اكتوينا بنارها، كشأن كل من اشتغل بالشأن العام، وأتمنى ألا تظن أنني أستنكر عليك من حيث المبدأ كتابة أشياء عجيبة لا أرضى عنها، فأنا أثق أنني أكتب كثيراً أشياء لا ترضيك، سيكون من العيب أن أردد إكليشيه «رضاء الناس غاية لا تُدرك»، لكنني ارتكبت بالفعل عيباً أعرف أنك ستنتقده، وهو إفراطي في شرح رأيي، قبل أن أخبرك به، ولعلك تتفق معي في إرجاع ذلك إلى التنائي الذي «أضحى بديلاً عن تدانينا»، والذي بات يفرض حذراً لم نعهده في التعبير عن آرائنا، ما كنا سنمارسه لو جمعتنا جلسة ساخرة شاخرة في مقهى أو منزل.
قل ما شئت يا صديقي، وحلِّل ما شئت، فأنت على أي حال أولى من الغريب، لكن افعل ذلك أرجوك، دون أن تفقد صلتك بالواقع الذي كنت بارعاً في قراءته، لأجدك مثلاً قبل أيام تقوم بالإشارة إلى نصوص دستورية يقوم السيسي بمعارضتها، لأن ذلك يقلقني على قدراتك العقلية، التي ربما تأثرت بفعل انغماسك الدائم في بلاعة الواقع، وقد ثبت علمياً أن روائحها الكريهة تؤثر على مسام التمييز ومراكز التفكير، وهو ما جعلك تتصور أن السيسي قبل أن يتخذ قراراً، سيتوجه إلى نسخة الدستور التي يحتفظ بها في مكان أثير في مكتبته أو درج مكين في مكتبه، ليتأكد من دستورية قراره قبل أن يتخذه.
القلق نفسه على قدراتك واتزانك، أشعر به حين أراك تكثر من التساؤل عن الأسباب التي تجعل عبد الفتاح السيسي ورموز نظامه في غاية التوتر والعصبية، مما تنتج عنه كثيراً قرارات طائشة حمقاء يكون ضررها أكبر من نفعها، مع أنهم كما تقول وتكرر، لو لجأوا للخبازين الشاطرين في سرقة نصف الرغيف، والترزية البارعين في تفصيل القوانين، والمثقفين المهرة في تستيف الأونطة، لأنجزوا ما يتمنونه دون كل ما يجري من طرطشة دامية أو بُنيّة، تثير الأعصاب وتفقد الحليم اتزانه وقدرته على قراءة الواقع.
كنت في البداية أعذرك فيما تكتبه، لأنك مجبر بحكم الظروف المحيطة على أن تكون حذراً فيما تعبر عنه، لكني لاحظت أنك أصبحت تكرر اندهاشك العجيب في التدوينات التي جعلتها متاحة فقط لأصدقائك الثقات، مما جعلني أرجح أن تكون راغباً في إيصال رسالة ما إلى أحد تخاف خطره وتخشى مكره، لكن مناقشة طويلة دارت بينك وبين صديق مقرب آخر، جعلتني أدرك أنك لا تتصنع الإندهاش، بل أنك بالفعل مندهش مما يجري، ربما لأن عقلك الباطن قام بتحوير الإندهاش ليصبح سلاحاً دفاعياً في مواجهة الواقع الصعب، وربما كان له حق في ذلك، فالإندهاش أشيَك وألطف من الإنكار، الذي أمعن فيه أصدقاؤنا الذين سبق لهم أن تورطوا في تأييد سفك الدماء وتبرير كل الكوارث والإخفاقات، لكنني وجدت أن من الواجب عليّ بحكم العيش والملح والدهون الثلاثية والبهجة والأسى وكل ما تشاركنا فيه، أن أذكرك بأنك تعارض قاتلاً، وحين تقوم بمعارضة القاتل، تحتاج لأن تفكر كقاتل، لكي تفهم ذهنية القاتل، فتتوقف عن توقع أفضل السيناريوهات، وتفتح الأبواب مشرعة للأسوأ والأضل والأنكى.
وإذا كنت لن تنسى كيف تورطت يوماً في إغراق تلك القطة المسكينة في الزير المجاور للجامع، أو كيف شعرت بالفخر لأن جارتك الحاجة استغاثت بك لقتل فأر أقض مضجعها فأنجزت المهمة، فهل بذمتك تعتقد أن عبد الفتاح السيسي ينسى أنه كان سبباً في قتل مئات البشر، وأصبح له ثأر عند الآلاف من أهاليهم وأحبابهم، إن لم يسع البعض لأخذه إن قدروا على ذلك، سيسعى الآخرون الأكثر عقلاً وتحضراً لأخذه بالقانون إن أتيح لهم ذلك، دعك من أسطورة القاتل الذي لا ينام لأنه يسمع أنّات ضحاياه، أو من تصورات أخينا الكبير شكسبير عن الدم الذي لا يزول من يدي القاتل مهما غسلهما، فأنا وأنت كبرنا على هذا الكلام، وأصبحنا نعرف أن القاتل حين يستطيع تأمين نفسه، ربما يكون أهدأ بالاً وأعمق نوماً من أهالي ضحاياه، ودون حاجة إلى المنومات والمهدئات التي يضطرون إليها، وأصبحنا نعرف أيضاً أن آثار الدماء تزول بسهولة من على الأسفلت ببركات الكذب والبطش والتعريص، لكن ذلك لا يعني أن القاتل يمكن أن ينسى أبداً مسؤوليته عن القتل، خصوصاً في لحظات الخطر، وحتى حين ينسى أهالي ضحاياه رغبتهم في الانتقام، أملاً منهم في هدنة من البطش، فلسوء الحظ لا ينسى القاتل أبداً ما فعله، ويكون مستعداً لفعل أي شيء لتأمين نفسه من المحاسبة والعقاب، ولذلك يمكن أن يفقد أعصابه تماماً، حين يشعر بالخطر، مهما كان محاطاً بجيشه وشرطته وقضائه وإعلامه ورجال ماله، فيهدد الجميع على الملأ بأن التغيير سيكون ثمنه «حياتي وحياة الجيش»، ويمكن حين يشعر بالهدوء النسبي أن يلجأ إلى التزلف والكذب والنحنحة والكلام المعسول المدهون بالآيات والحواديت.
لا أظن أن تنائينا الذي أضحى «بديلاً عن تدانينا» سيجعلك تسألني الآن عن الحل والبديل، فأنت تعلم أن أهم خطوة في طريق إيجاد الحل والبديل، هي إدراك الواقع جيداً وعدم القفز فوق حقائقه، ليس فقط لتقليل الخسائر إلى أقصى حد ممكن، بل لمعرفتها قبل أن يتخذ الإنسان منا قراره بالمواجهة أو الهدنة أو التحايل أو الاستبسال أو شراء الدماغ، فكل تلك القرارات يمكن تفهمها وتفسيرها، لكن يصعب كثيراً أن تفسر قيام عاقل مثلك بالإندهاش من رغبة قاتل في المزيد من القتل لكي يحمي نفسه، ومن قدرته عليه إن استطاع، ومن استعداد شركائه في القتل أن يناصروه على المزيد من القتل حتى آخر لحظة.
إذا كان لا بد أن تندهش، فاندهش ممن ما زال من أصدقائنا يعتقد أن ذلك كله سيصنع دولة لها واقع مستقر ومستقبل مشرق.
بلال فضل
COMMENTS