لا يعرف الفرنسي عامّة أنّه يتكلّم العربيّة ما أن ينهض ويجلس إلى مائدة الفطور: «تفضّل ماذا أقدّم لك؟ طاس[طسّ] قهوة بالسكّر أم من دونه؟». ...
لا يعرف الفرنسي عامّة أنّه يتكلّم العربيّة ما أن ينهض ويجلس إلى مائدة الفطور: «تفضّل ماذا أقدّم لك؟ طاس[طسّ] قهوة بالسكّر أم من دونه؟».
وواضح أنّ الفرنسيّة احتفظت بالأصل العربي، فيما نحن نترجم «طاس» بـ«فنجان». وقد يجيب: «شكرا، أفضّل عصير برتقال [نارنج]». ويخفَى عنه أنّه يستخدم في هذا الحوار الصباحي المألوف أربع كلمات عربيّة هي: طاس وقهوة وسكّر ونارنج، بالرغم من أنّ هذه الأخيرة، ويقال «النرنْج» أيضا وهو الليمون المعروف عند العامّة في الشرق بـ«ليمون بوصفير» معرّبة؛ ولكنّها دَاخلتْ الفرنسيّة من العربيّة وليس من الفارسيّة، واللغات كالإسفنج يتشرّب بعضها بعضا:
Tasse/ café/ sucre/ orange
* * *
في اللغة الفرنسيّة ـ وأنا أستأنس في هذا المقال بأهل الاختصاص من الفرنسيّين ـ كلمات من أصل عربي، هي ضعف الكلمات التي تتحدّر من أصول غالية، بل هي أكثر من ذلك. ويديرها الفرنسي على لسانه، بيسر؛ دون أن يعرف أنّها من الدخيل اللغوي. بل ربّما وقع في ظنّه أنّها إرث غاليّ. وليس ثمّة فرنسي لم تستوقفه، ولو مرّة واحدة؛ هذه العبارة المأثورة «أجدادنا الغاليّون…» وقد يتلفّظ بها بعضهم، باحترام وزهو؛ وكأنّها شارة هويّة، وقد يتلفّظ بها آخرون، وهذا ما جرت به العادة؛ بنبرة ساخرة هازئة. غير أنّ هذه العبارة، على رواجها؛ مجهولة النسب متّهمة الأصل. والفرنسي يردّدها، دون أن يُنْعمَ النظر فيها أو يسأل عن المحذوف فيها؛ وهي تركيب بالحذف أو الإضمار، وفيها إيجاز واختصار، وقطع وإسقاط: «أجدادنا الغاليّون…» ما بهم؟ أو ماذا بعد؟ وهل مردّ الحذف هنا، إلى كثرة الاستعمال واطّراده أم إلى طول الجملة؟ ولكن لا أحد يعرف بقيّة هذه العبارة ـ وهي ليست بجملة ـ إلّا أن يكون تركُ الذكر كما يقول عبد القاهر الجرجاني، أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة؛ ويكون المرء أنطق ما يكون دون أن ينطق، وأتمّ بيانا دون أن يبين.
على أنّ من الباحثين من يذهب إلى أنّ الفرنسيّين يدينون بهذه العبارة «الناقصة» المحفوظة في ذاكرتهم، لأرنست لافيس؛ وهو مؤرّخ وجمهوريّ وأكاديميّ مرموق عند أهل اليمين وأهل اليسار على حدّ سواء، انضمّ إلى الأكاديميّة الفرنسيّة عام 1892. وهو الذي وضع تاريخ فرنسا الرسمي أو «روايتها القوميّة»، أو ما يمكن أن نسمّيه «الرواية النهر» التي تستعرض حياة فرنسا بأجيالها؛ في عهود مشادّتها وعصور استقرارها. يقول في مفتتح موجزه: «أيّها الطفل، أنت ترى في غلاف هذا الكتاب، أزهار فرنسا وثمارها. وفي هذا الكتاب تتعلّم تاريخ فرنسا. ويجب أن تحبّ فرنسا، فالطبيعةُ صنعتها جميلةً، والتاريخ جعلها عظيمة». ثمّ نخلص معه إلى الفصل الأوّل حيث يضع الغاليّين في الصدارة، وهم في تقديره منطلق تاريخ فرنسا. وواضح أنّه كان يهدف إلى إقناع الطفل الفرنسي، بوجود مكوّن ثابت لا رادّ له؛ هو مكوّن الأمّة الفرنسيّة وهويّتها. وقد يكون من المفيد أن نتنبّه كما يقول البعض، إلى الفروق أو الظلال الخفيّة بين المنطلق الأصلي الذي يتمثّله الغاليّون، والنتيجة التي تدرّجت إليها فرنسا منذ ذلك التاريخ الغابر المحفوف بالغموض، أو المحصّلة النهائيّة وهي الجمهوريّة الثالثة (1871/ 1941) الحاملة لحسّ قوميّ وُضع لبنةً لبنةً طوال قرون. فلم يكن بالمستغرب أن يظهر في مستهلّ القرن العشرين، جيل من الفرنسيّين مأخوذ بالنخوة أو العزّة الوطنيّة، كان يتأهّب و«زهرة في البندقيّة» للثأر من ألمانيا، في الحرب العالميّة الأولى. وكان ثمّة انتصار لاشكّ؛ ولكن بخسارة مروّعة في الأرواح، لا مثيل لها.
ما هي الصورة التي ترتسم لبلاد الغال في هذا المنظور؟
نقرأ في الفصل الأوّل أنّ بلاد الغال حتى القرن الخامس بعد الميلاد، هي الاسم الذي كان يطلق على فرنسا. وهي بلاد كان يقطنها حوالي مئة من الأقوام والشعوب صغيرة العدد. وكان لكلّ اسمه الخاصّ. وكانوا يتصارعون في ما بينهم ويتقاتلون تناحرا على البقاء واقتتالا على القوت. ثمّ يلي هذا الوصف أو هذا التاريخ «المؤسف» مصادرة مكتوبة بحروف مائلة علامة على الدخول في صميم الموضوع، وملامسة النقطة الحسّاسة: «لم تكن بلاد الغال وطنا، ذلك أنّ الوطن هو بلد يجب أن يحبّ كلّ سكّانه بعضهم بعضا». وباختصار فإنّ ما يومئ إليه صاحب الموجز التاريخي، أنّ التاريخ القومي يمكن، بالرغم من ذلك، أن يتواصل. وأن يعاد بناؤه دون أن يحذوَ الفرنسي حذو الغاليّين المثال السيّئ أو القبيح. وعليه لم يعد للعبارة المأثورة «أجدادنا الغاليّون» ذلك الوقع أو الرنين القديم الذي كان يضفي عليها قيمة وهيبة. وإنّما هي في أحسن الأحوال منطلق أمّة، لم يُستكمل بناؤها. بيْد أنّ الأمّة الفرنسيّة ظلّت مأخوذة بسحر الأسطورة المؤسّسة؛ وهي تتعهّد محبّة خاصّة لهؤلاء «الأجداد» المزعومين، بالرغم من ظهور مصنّفات مدرسيّة أخرى في النصف الأوّل من القرن العشرين، واصلت في السياق نفسه؛ وإن بنخوة أقلّ. من ذلك مثلا: «كان الغاليّون يقيمون في أكواخ قرب الغابات والأحراش. ونرى حولهم خنازير وحشيّة ضخمة ضارية». ومع ذلك يظلّ السؤال قائما أو مطروحا: من أين جاءت هذه العبارة «أجدادنا الغاليّون… ؟».
والإجابة الممكنة أنّ العبارة صار لها أصل أو قاعدة بناء، مع فردينان بويسون. وقد أثبت ذلك في مصنّفه البيداغوجي «معجم البيداغوجيا الجديد» في طبعته الأولى عام 1887، ثمّ في طبعته الثانية عام 1911. وكتب أنّ هناك شعرا يجب أن يحفظه الشباب؛ من أجل إذكاء حسّهم الوطني: «لنجعلهم يتعلّقون بأجدادنا الغاليّين، وبغابات الدرويديّين [درويد أي كاهن غالي]… وبلد مثل فرنسا لا يمكن أن يعيش دون شعر». غير أنّ هذا الشعر الفرنسي، لم يتسنّ إلا بواسطة العربيّة التي طعّمت الفرنسيّة.
يقول أرنست لافيس: «إذن كان الغاليّون في القرن الثاني قبل الميلاد متوحّشين، يضعون قدما على عتبة التمدّن». ثمّ نتقدّم معه بضع صفحات، لنقف على الفصل الموسوم بـ«العرب والحضارة العربيّة»، وهو يميّزهم بكل موضوعيّة عن الغاليّين، ويقول إنّ «حضارتهم المشرقة ظلّت طويلا متقدّمة على حضارة الغربيّين، وأنّها لحسن حظّنا أثّرت فيها». وقد كتب لافيس عبارته هذه بخطّ غليظ، وشفعها بمفردات من أصل عربيّ امتصّتها أو استعارتها الفرنسيّة، وبفصل وسمه بـ«بلاد العرب: محمّد والإسلام» وما كان من أمر العرب عندما استولوا على اسبانيا، وكادوا يحتلّون بلاد الغال في موقعة بواتييه الشهيرة؛ وهو يشيد بقوّتهم وبأسهم وحماسهم لديانتهم الجديدة. وهكذا بدأت العربيّة تسمُ الفرنسيّة؛ بوجه لا يمكن مقارنته بلغة «الأجداد الغاليّين»، انطلاقا من دمشق وبغداد وقرطبة وغيرها من حواضر الإسلام مثل القيروان والقاهرة. ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في صناعتين: الأسلحة والقماش.
ومثالها كلمة قطن، وغيرها مثل:
moire/mohair
وقد هاجرت إلى الفرنسيّة من الإنكليزيّة. وهي تتحدّر من أصل عربيّ هو «مخيّر» بمعنى نسيج متموّج المظهر. ومثالها كلمات بُستانيّي العرب، وهم الذين نشروا في البلدان المتوسّطيّة أنواعا من النبات والأشجار المثمرة؛ لم تكن معروفة لدى الأوروبيّين، قبل الحقبة الأندلسيّة، وخاصّة طرق ريّها.
ومنها التمر الهندي أو الصبّار والطرفاء، فقد احتفظت بوشمها العربي، وواضح أنّ أصل الكلمة عربيّ مأخوذ من «التمر» الذي يشبّه به المنّ؛ وهو ما تفرزه طرفة المنّ في سيناء، ثمّ استعيرت الكلمة للزجاج الدقيق، وللبطاطا المخفوقة.
وكذلك الياسمين وغيره، والنسيج الشفّاف «الموصلي» فهو ينسب إلى الموصل، والشفّ أو شاش الجراحة، فهو يُنسب على الأرجح، إلى غزّة.
La mousseline/ tamarin/tamaris/ jasmin/ la gaze
وحاصل الرأي أنّ الفرنسيّين ـ وهذه من مفارقاتهم ـ يحتفظون إجمالا بصورة مشرقة لـ«أجدادهم الغاليّين»، ولكنّ لغة هؤلاء مجهولة عندهم تماما أو تكاد؛ ماعدا مئة كلمة أو أكثر بقليل صمدت في وجه الاحتلال الروماني. وقد أخلت الغالية وهي لغة شفويّة ليس لها تقليد كتابي، المكان للاتينيّة؛ إذ كان التبادل التجاري في ظلّ الهيمنة الرومانيّة، يتمّ باللاتينيّة لغة المنتصرين وليس بالغالية التي اضمحلّت، وخضع القليل ممّا تبقّى منها لتناسخات لغويّة شتى؛ بالرغم من أنّها لغة سلتيّة (نسبة إلى السلتيّين) تنضوي شأنها شأن اللغات الأوروبيّة ماعدا الباسكيّة؛ إلى اللغات الهندـ أوروبيّة.
أمّا اللغة العربيّة فهي تشغل المرتبة الثالثة، من بين اللغات التي طعّمت الفرنسيّة، وهي تأتي بعد الانكليزيّة والإيطاليّة اللتين طعّمتا الفرنسيّة أدبًا وسياسة ومعيشا يوميّا. وربّما يدرك الفرنسيّون المؤثّرات الانكليزيّة والإيطاليّة في لغتهم؛ ولكنّهم لا يدركون مؤثّرات العربيّة فيها، بل ربّما استغربوها؛ إلاّ عند المطّلعين منهم على المصنّفات التاريخيّة، مثل أرنست لافيس. وهذا ما يسوّغ في نظر جون بريفو أن تحلّ عبارة «أجدادنا العرب» محلّ «أجدادنا الغاليّون»، فالعربيّة في فرنسا في عقر دارها، ولا تحتاج إلى فيزا مثلنا نحن.
كاتب تونسي
منصف الوهايبي
COMMENTS